الأحد، 7 ديسمبر 2014

وجع اعاقة ..

لم ألحظ يوماً بأنه معاق بالرغم أن العكاز لم يفارق يداه يوما 
وبرغم وضوح الضمور في قدمه اليسرى.

كانت طفولتنا رائعة ، مُزجت بحب لم نعترف به حينها..

بالفعل ِكانت أجمل الأيام هي الإجازات الصيفية ، حين كنا نجتمع في تلك المنطقة الريفية نحن الأهل جميعاً والأقرباء وكان هو احدهم..


مازلت أتذكر تلك المرة التي ما أن وصلت، إذ بعيناي تبحث في الوجوه عن وجهة .. 
بعفوية وبدون شعور مني سألت أخته عن مكانه 
وما أن دلتني حتى هرعت مهرولة إليه قابضة على يديه ..
ليريني تطورات هذا المكان الريفي المظلل بسعف النخلات الباسقات..
هكذا كنا لا نتفارق ، نجلس بجانب بعضنا دائما سواء كنا أنا وهو فقط أو ضمن الآخرين .. 
كان قوي يتمتع بطاقة وحيوية كبيرتين ..فكان يستطيع الجرئ أسرع مني ومن الغير برغم شلله .
ويتسلق النخيل ليجلب لي بعض التمرات بعد ان يمسحها بقميصه المبلل بعرقه، 
كانت طفولتنا بريئة جميـلة يجمعنا حب عميـق لم ندركه ولم نعرف اسمه في ذلك الوقت..


إلى ان قررنا ذات نزهه ان نشد رحالنا الى شاطئ البحر ..
لم أنتبه لحظتها بأنه لم يدخل الى البحر بسبب إعاقته 
وجدته يقف بعيداعلى حافة الشاطئ 
وبغباء طفولي تركته هناك .. 
وأنا أستمتع بالسباحة في مياهِ البحرِ الرائع مع الآخرين. 
وكأنني نسيته فجاءة ..بل نسيته فعلاً .
وما أن فرغنا من السباحة والعبث مع أمواج البحر وقاربت الشمس على المغيب بدأنا نلملم إغراضنا ونستعد للمغادرة حيث كانت تلك المنطقة تبعد عن منزلنا الكائن في الريف ما يقارب النصف الساعة سيراً ..
في تلك اللحظة تذكرته وناديت بإسمــه..وكأنه لم يسمعني 
فـ لمحت طيفه الراحل بذلك العكاز وقد صبغه لون الغروب بلون الظل.


وبسرعة صعدنا الى السيارة واتجهنا إليه 
وطلب الجميع منه الصعود ولكنه تجاهلنا و بلا مبالاة أكمل طريقة .


طلبت ان انزل في تلك اللحظة لأُشاركه السير ولأكمل معه الطريق وقد شعرت بان تجاهل الجميع اثر فيه بصورة كبيرة..


استغرقنا بالمشي أكثر من نصف ساعة و شعرت بالإرهاق الشديد. 
وكان هذا الأخير قد احتل ملامح رفيقي السائر معي بصمت متعب
وحبات العرق أنشرت على جبينه بصورة عجيبة..


في ذلك اليوم وجدت إنني أتأمل ملامحه.. وأجدني قد ضبطت متلبسة بهذا الجرم..
رأيت لأول مرة ملامح القسوة التي تكسو وجه الأسمر.. ولأول مرة أرى تلك النظرة المبهمة الممزوجة بدموع تحجرت في مقلتيه تترائ لي من خلف رموشه الكثيفة . 

شعرت بالحزن الشديد لأجله .

وما إن وصلنا الى المنزل .. حتى زالت ملامح القلق عن الآخرين.. وعلمت في اليوم التالي بأنه متوعك بسبب المسيرة التي أمضاها باليوم السابق ..


ومنذ ذلك اليوم انتبهت لإعاقته...
وبدون وعـي شعرت بأنني اكرر له إنتبه.. لا تفعل كذا.. وزاد اهتمامي وعطفي عليه ..
وبدأت اشعر بأنه قد بدأ يشطاط غضباً من إهتمامي و من إنصافي له رحمة وشفقة حتى وان كان المخطي..


كنت أجده دائم الوجوم والغضب.. وانا أحاول ان اخفف عنه .


هكذا كنا نلتقي كل إجازة في نفس هذه المنطقة.. 
وفي إحدى الإجازات كنت قد أوشكت على بلوغ الثالثة عشـر. كنت اجلس بجانبه في إحدى الليالي والجميع معنا ..
اذا بي اسأله عن سبب هذا الشلل حيث إني علمت بأنه لم يلد معاق ..
كنت انهال عليه بأسئلتي والفضول يملئني . وهنا بدا كل شخص في ذلك المكان بالتعليق بكلمة اما مؤاساة وسؤال او تعليق مضحك .. 
الى قالت له والدتي ببراءتها المعهودة.. بأنها لا تعرف ان كان هناك من فتاة قد تقبل به في المستقبل اذا استمر في امساك العكاز .. 
حيث ان القدم الاصطناعية كانت تسبب له الكثير من الألم كما كانت تعيقه عن الحركة بحرية كما اعتاد .. 
رأيت تلك اللحظة .. نظرة قاسية.. تلوح من عينيه .. وترك المكان ..فإذا أحاول اللحاق به .. وفجاءة توقف .. ورأيت لأول مرة تلك الدموع في عينيه.. اقتربت أكثر منه فإذا بي أتلقى صفعة قوية على خدي من كفه ..
صارخا في وجهي بأنني انا السبب في فتح هذا الموضوع برغم إنني اعلم بعدم رغبته في الحديث في هذا الأمر .. 
تسمرت في مكاني بذهول .. 
وساد الصمت ثواني شعرت معها بان الدنيا تلف بي من جراء ما حصـل.
شعرت بان شفتيه تود قول أمر ما. ولكننه تردد وتركني في ذلك المكان وحيدة .. 
عدت الى سريري تاركه الكل في هرج ومرج يضحكون .. ودموعي لم تتوقف .. لم أكن ادري ان كانت بكاءاً عليه او من جراء الصفعة . 
استيقظت باكرا. وذهبت ابحث عنه.. حيث كان المنزل مقسوم الى قسمين .. أحداهما للرجال والأخر للجنس اللطيف .. رايته كعادة يعمل في تجميع التمر ووضعه سلات.. ولكن بسبب تجمع الآخرين قررت عدم الحديث بما كنت انوى ان أصارحه به ..
الى وقت الظهيـرة.. كنت اجلس على طرف البئر .. واتي هو بجانبي وجلس وتصنع بانه كاد ان يسقط في ذلك البئر .. ضحكنا لحظتها سويا .. وعلمت بانني لم اغضب منه ابدا... وجدت كلماته ثقيلة وهو يبحث عن كلمات اعتذار لما حدث منه .. ووجدتني أعفيه من هذا الاعتذار.. واطلب منه بعنج المراهقات ان يصنع لي أرجوحة .. وبدون تردد ذهب وجلب حبل منيع .. وتسلق النخلة بخفة .. رابطاً كل طرف بجذع نخلة .. كنت انا اتامله .. واتامل هذه الخفة التى يفتقر اليها اغلب الأصحاء .. اتامل تلك الملامح القاسية والحانية في نفس الوقت .. وما ان انتهى حتى وجدت الجميع من باقي الأقرباء تجمعوا حول الأرجوحة .. كلا ينتظر دوره صغيرا وكبيرا.. 
ضحكنا سويا وتركنا المكان لهم . مفضلين تواجدنا معا دون ضجيج .يتناسب مع طبيعته الهادئة .كنت قد عزمت في ليلتي السابقة ان أصارحه بأمر ما . وكا ما ووددت فتح شفتاي .. حتى تعود وتطبق على بعضهما .. الى ان تشجعت . وأمسكت بيديه .. وقلت له .. بصورة سريعة.. اذا لم تقبل أي فتاة من الزواج بك .. فتأكد بأنني حينها سوف اقبل بك .. 
لم اعرف ماذا انتابني تلك اللحظة.من إحساس غريب.. شعرت بوجهي وكأنه تحول الى قطعة فخار .. وانا ارى نظرات الألم . تقطر من عينيه .. شعرت لحظتها بأنني حقا بدلا من أكحلها عميتها كما يقول المثل.
لم يرد .. وعدنا صامتين .. كما كنا وأكثر .. وبعد ذلك اليوم غادرنا الى مدينتنا ..
ومنذ تلك الفترة لم أراه سوى مرة او مرتين . لم استطيع خلالهما ان أحدثه او يحدثني..
كنت انتظر الإجازة.. بفارغ الصبـر.. ولم نسافر حينها بسبب مشاغل أبي..
كنا نلتقى أحيانا ولكنه كان يتظاهر بالتجاهل .. 
وانتظرت الإجازة القادمة بصبر قد نفذ وفي قراري .. بأنني سأصارحه بحبي له .. كنت اشعر بحبه لي في نظراتة الدافئة والعميقة .. في حديثه في لمسه يديه ..
وفعلا ما ان استقبلنا الإجازة . حتى بدأت استعجل والدي بالذهاب الى الريف .. وبعد عده ايام فعلا ذهبنا الى ذلك المكان.. ولم اجده بسبب ان اختبارات الجامعة تنتهي بعد اختبارات المدارس .. كنت اشعر بالضيق دونه .. علمت حينها بانني أحبه حبا عجيبا ..لم أدرك بان المكان لا طعم له أبدا دون وجوده .. أسبوع مر بمرارة وبعدها حضـر ذلك المنشود .. لم اشعر بسعادة قط تضاهي تلك السعادة التي شعرت بها بوجوده ..
كنت حينها قد وضعت الحجاب بفرض من أمي ..شعرت بوضعه بأنني اكثر حياء وهو يطالعني باتسامته الرائعة .. وجدته حينها قد تغيرت بعض ملامحه عن ذي قبل .. 
لم اعد استطيع ان احدثه مثل اول أصبح جامعي .. حركاته أكثر رصانة .. تصرفاته معقولة عاقلة .. متزنة . لم يعد يقطف لي حباى التمر . ولم يعد يضحكني بتصرفاته الصبيانية .. 
كنت قد قررت ان أصارحه بشعور مهما حصـل .. وبالذات وانا اعلم بأنني لن استطيع البقاء لمدة طويلة ..
لأول مرة اشعر بان اسمه يخرج من بين شفتي بصعوبة .. وكأنني همست بأسمه ورغم ذلك سمعني .وبدون ان انظر إليه قلت له .. انا احبك .. لم ادرك لما حينها بكيت .. وغطيت وجهي بكفاي الصغيران.. 
شعرت حينها بكفيه على كتفي .. وبسرعة ولثواني سراع غمرني الى صدره بضمة حانية .. وكأنه يواسي طفلة .. 
الى ان هدأت .. عدت لانظر اليه وكررتها بانني احبه .. كنت لا اعرف سر الالم الذي يرتسم على ملامحة في لحظات صدقي .. الى ان وجدته يتنهد وكأنه يستعد لسرد موضوع طويـل .. 
اجابني بنفس نبرة العاقل التي لم احبها .. اني ما تشعري به نحوى هو مجرد عاطفة امتزجت بشفقة.. وعطف لا اكثر .. مازلت صغيرة .. وغدا ستعلمين ما اقصده..
لم اصدق حينها ما سمعت منه .. تركته .. وعدت الى الجمع وعقلي وقلبي في وحدة ..
تركت عام .. أخر يذهب دون رويته .. واتي العام التالي كنت في أخر سنه لي في المدرسة .. 
كنت اشعر كل يوم بأنني أحبه.. وكل يوم بأن لا مجال لشفقه أو عطف مع إحساسي بحبه .. 
كان قراري هذا قوى وصامد كجبـل عملاق .. كابو الهول .. سيظل لسنوات .. وسنوات 
وما ان رايته . حتى احسست بانه يتعمد ان لا ينظر الي .. 
انتظر ان يمر يومان او اكثر وبعد ذلك احدثه بما اريد .. 
كان قد بدا بعمل مشروع صغيـر .. وبدا بتتريب حياته المستقبلية .. ورفضـه في ارتداء الساق الاصطناعية قائم كما هو .. 
تعمدت ان انتشله من بين الجموع .. اصبحو شباب .. الامور اختلفت .. التعليقات اصبحت محرجة .. طلب منه ان يتمشى معي بين النخيـل وفي المزارع المجاورة .. 
لحظتها .. تنبهت لشي يلمع في اصبعة البنصر .. لم ادرك حينها .. ماذا اقول ..واعقتدت بانه يتبع الموضة في وضع دبله دون ارتباط حقيقي .. 
وجدتني اساله بدون مقدمات عن امر هذا الدبلة. ليجبني بمرارة .. بانه خطب .. قبل اسابيع .. 
لم ادرك حينها ماذا حل بي .. همست .. من هي ..؟ هل تحبها .. ؟؟ 
اجابني بوضوح .. ابدا .. لا احبها .. لانني احبك انت ..! 
لم اتحمـل .. لم اصدق ما يقال .. انفعلت ووجدتني اصرخ بكل صوتي في وجهه .. 
تحبني .. ! شعرت بصحكة هستيرية تمتزج في اعماقي ..
سمعت صوت مرير .. يقول .. لا يمكنني ان ارتبط بشخص يشفق علي .. لا اريد أي شفقة .. حتى ان كانت ممن احب .. 
احسست لك اللحظة بالم يعصرني ..تركته .. راكضة 
تركت لقدماي تجري بي الي المجهول .. ودموعي تنساب كنهر انهدم سده قبل قليل ..
انتهت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق