الأحد، 7 ديسمبر 2014

خلى بالك المسكنات تعنى المخدرات

استعمال المسكنات
لا تقتصر ظاهرة استعمال المسكّنات - التي هي أحد مجموعات المخدرات - على فئة الشباب فحسب وإنما هي تنتشر بازدياد في كل الأعمار بشكل يحتاج وقفة ومراجعة، بل صيحة نذير. المسألة تبدأ من النظر في ما آلت إليه منظومات القيم المعاصرة عبر العالم، حيث تمثل القيم السائدة الأرضية التي تترعرع فيها هذه الظاهرة، وأساساً قيمة الرفاهية والسعي إلى الحلول السريعة، إن تكرار الحديث عن أن الهدف الأول وأحياناً الأخير في الحياة هو تحقيق مجتمع الرفاهية وبأسرع ما يمكن، يصل إلى أولادنا وبناتنا فى سنٍّ مبكرة، مع أن أغلبنا يعيش في مجتمعنا دون أية رفاهية أصلاً حتى كلمة الرفاهية التي نرددها معظم الوقت هي ترجمة رخوة للكلمة الإنجليزية المقابلة.
اعتماد الشباب على المسكنات والمخدرات هو ‏كارثة‏ ‏لها‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏وجه، ‏ولا‏ ‏يمكن‏ ‏اختزالها‏ ‏إلى ‏تفسير‏ ‏واحد، ‏فمن‏ ‏ناحية‏ ‏هي ‏إعلان‏ ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏قوة‏ ‏شرائية‏ ‏مادية‏ ‏قد‏ ‏وجدت‏ ‏في ‏حوزة‏ ‏من‏ ‏هو‏ ‏ليس‏ ‏أهلاً‏ ‏لحمل أمانتها، ‏فلا‏بد‏ ‏أن‏ ‏نتذكر‏ ‏ابتداءً أن مسيرة المسكنات التي توصل إلى المخدرات قد تكلف صاحبها في اليوم الواحد ما يعادل احتياج عشر أسر مجتمعة.
‏‏ومن‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى يشيع بيننا اعتقاد راسخ أن الألم هو شيء قبيح على طول الخط ومن ثم نحن نلجأ إلى‏ ‏الحل‏ ‏الهروبي من أي ألم، حتى لو كان ضرورياً لمسيرة الحياة فكأن تعاطي المسكّنات أصبح هو الترجمة لموقفنا الصعب أمام واقعنا الأصعب. ومن‏ ‏ناحية‏ ‏ثالثة‏ ‏يحل المسكّن بما يسهله من هرب صعوبة‏ ‏مواجهة‏ ‏العيش‏ ‏"معاً" ‏وسط‏ ‏ناس‏ ‏حقيقيين‏ ‏مختلفين‏ فنتجنب بذلك عبء العلاقات البشرية التي أصبحت أصعب فأصعب نتيجة للوعي بالاختلاف الضرورى للنمو.


وأخيرا‏ً ‏فإن‏ ‏التسكين‏ ‏يلوح كأنه‏ ‏جنة‏ ‏كيميائية‏ ‏مضمونة، في ‏مقابل‏ ‏التلويح‏ ‏بجنان‏ ‏مؤجلة‏، ‏إن الذي يتعاطى المسكّنات للإسراع بإزالة أي ألم مهما بلغت ضآلته، أو عظمت أهميته إنما يخيل إليه أنه يحصل على عصفور‏ ‏في ‏اليد، لأنه لم يعد واثقاً من جنة مؤجلة موعودة، ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏يقابل‏ ‏في ‏هذا‏ ‏المقام‏ ‏ما‏ ‏نوجزه‏ ‏في ‏قولٍ‏ ‏موازٍ‏: ‏جنّة‏ ‏بالسم‏ ‏خير‏ من جنان غير مضمونة.

حتى الدين الذي هو التزام وسعي وعلاقة إيجابية بالله وبالحياة، اختزله بعض المسطحين من المفسرين إلى أنه دعوة إلى طمأنينة ساكنة. إن تسويق السكينة على حساب الحركية اليقظة تنتمي إلى الإعلاء من قيمة سكينة خاملة فينقلب الدين إلى نوع آخر الاستسهال، وكل ذلك يمثل مزيداً من الدعوة إلى تجنب الألم بأسرع ما يمكن، ولأن الدين الساكن لا يحقق هذا الهرب الموعود عادة، تقفز البدائل، ومنها المسكنات، إلى الواجهة كبديل جاهز.

الحاجة إلى حوار حقيقي
كثرة اللجوء للمسكنات عند الشباب يعلن أيضًا‏ً ‏فشلنا‏ ‏في ‏أن‏ ‏نحترم‏ ‏فطرته‏ ‏ونحن نتحاور معه إن كنا نتحاور أصلاً، ثم إن معظم‏ ‏المؤسسات‏ ‏التي ينشأ الشباب في رحابها هي المؤسسات‏ الاستهلاكية المغتربة القامعة، أو الدينية الساكنة. تأتي بعد ذلك مسألة كيف يؤدى تعاطي المسكنات إلى إدمان أخطر: إن تَعوّد تناول مادة ما، لها أثر على الجهاز العصبي، يحدث تغييراً في الوعي، وعادة ما يكون هذا التغير من نوع التعتيم، ثم يترتب على هذا التغير والتعتيم إعاقة عن ممارسة الحياة العادية كما تتطلبها وتنبض بها الطبيعة البشرية، وأهمها أن نعمل وأن نحب، وأن نقبل جرعة من الألم تحفز على الحركة والإبداع. ثم إنه عليّ أن أعترف أن دور الأطباء في ترويج هذه القيم المسئولة عن مفاهيم التسكين المستمر هو بالغ الخطورة، ذلك أن معظم الأطباء يختزلون المرض، "النفسى خاصة"، إلى نقص أو زيادة في مادة كيميائية معينة، وبالتالي فكل ما عليه هو معادلة هذا الخلل، مما لا شك فيه أن العقاقير مفيدة، لكنها ليست الحل السعيد دائماً، إن الكيمياء تسهم فعلاً فى إعادة تنظيم الطبيعة، لكنها إذا استخدمت لإلغاء الحركة والقضاء على الألم كله أصبحت مسئولة عن حياة خامدة بلا ألم. 


دعونا نقر أن أغلبية المرضى لا يقتنعون بأي علاج دون تسكين، و‏معهم‏ ‏كل‏ ‏الحق‏، ‏ولكن على الأطباء أن يتحملوا مسئوليتهم وهم يضبطون الجرعة المناسبة من الألم اللازمة للحفاظ على حيوية الوجود، في مقابل حق المريض ألا يتألم ألماً مفرطاً معجزاً. وأخيراً نتذكر دور شركات الأدوية وأكثرها يقوم بتجارة مشبوهة في هذا المجال ‏فشركات‏ ‏الدواء‏ ‏في ‏الولايات‏ ‏المتحدة‏ ‏الأمريكية ‏مثلاً‏، ‏هي ‏ثالث‏ ‏مركز‏ ‏قوي ‏سياسي (‏لوبي‏) (‏بعد‏ ‏شركات‏ ‏السلاح‏ ‏واليهود‏) ‏وهى تمثل ‏مؤسسات‏ ‏عملاقة‏ ‏لا‏ ‏تؤثر‏ ‏فحسب‏ ‏على ‏وصفات‏ "‏روشتات‏" ‏الأطباء‏، ‏وإنما‏ ‏تشكل‏ ‏البحث‏ ‏العلمي ‏ومناهجه بما يخدم ثرواتها وليس بما يخدم المرضى‏. المصيبة‏ ‏أن‏ ‏النتائج التي تخرج من معامل الأبحاث هي نتائج جيدة في ذاتها، لكن هذا‏ ‏حق‏ ‏يراد‏ ‏به‏ ‏باطل‏ ‏لأن‏ ‏كل‏ ‏نتائج المعامل‏ ‏هي ‏معلومات‏ ‏جزئية‏ ‏لا‏ ‏تثبت‏ ‏شيء ‏أو‏ ‏تنفيه‏ ‏إلا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏رؤية فاعليته على أرض الواقع‏ ‏مع‏ ‏بقية‏ ‏الحقائق‏، ‏ومن‏ ‏خلال‏ ‏الممارسة‏ ‏العملية‏ ‏مع‏ ‏المرضى والأصحاء‏)‏.)(

وختاماً، إذا كنا نريد أن نواجه مسئوليتنا كما ينبغي، علينا أن تتناول المشكلة على عدة محاور:
الأول‏: ‏المحور ‏الإداري ‏والتنظيمي الذي ينبغي أن ينظم تداول‏ ‏هذه‏ ‏العقاقير‏ (‏وذلك بإحكام‏ ‏القانون‏ ‏والضبط‏ ‏والربط)، بشكل لا يكتفي بالسماح بصرف المسكن ما دام مكتوباً على وصفة (روشتة) طبية، دون سحب هذه الروشتة من المريض (أو الزبون) بحيث لا يمكنه إعادة صرفها.
‏‏المحور الثاني: ‏وهو‏ ‏الأصعب‏، ‏فهو‏ ‏الذي ‏يتعلق‏ ‏بتغيير‏ ‏مفهوم‏ ‏الأطباء‏ ‏ليس‏ ‏بالنسبة لموقع‏ ‏الدواء المسكن‏ ‏بين‏ ‏العلاجات‏ ‏الأخرى، ‏وإنما‏ ‏تغيير‏ ‏مفهومهم عن‏ ‏المرض‏ ‏والصحة‏ ‏عموماً، باحترام الألم الخلاق والألم المنذر، وفي نفس الوقت التخفيف من الألم المعيق والألم الساحق.‏ إن‏ ‏تغيير‏ ‏هذا‏ ‏المفهوم‏ ‏جذرياً ‏سيجعل‏ ‏الطبيب‏ ‏قادراً‏ ‏على ‏استيعاب‏ ‏حركية المواجهة مع المرض‏، ‏والإسهام‏ ‏في ‏دفع‏ ‏عجلة الشفاء‏ ‏بإعادة‏ ‏التوازن‏، ‏وليس‏ ‏بوقف‏ ‏الحركة.
‏المحور الثالث: ‏هو في مجال التربية والتعليم مع التأكيد على الوصلة بين المدرسة والأسرة، لتعميق مفاهيم أكثر إيجابية، وأعمق مسئولية، وأقرب إلى حقيقة الطبيعة البشرية في كدحها للنمو والتطور

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق